فصل: 3 - التعميم ثم التخصيص:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المعجزة الكبرى القرآن



.1 - الاستدلال بالتعريف:

143 - الاستدلال بالتعريف بأن يؤخذ من ماهية موضوع القول دليل الدعوى بأن يؤخذ مثلًا من حقيقة الأصنام دليل على أنها لا تصلح أن تكون معبودًأ، ومن بيان صفات الله تعالى دليل على أن يكون وحده المستحق للعبادة، وإذا كان موضوع القول هو الذات العلية تقدَّست أسماء الله، فإنه يكون الاستدلال على ألوهيته سبحانه، ببيان صفاته، وخلقه للكون صغيره وكبيره ولا تعترف الذات العلية إلا بصفاتها، ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ، فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ، وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنعام: 95 - 100].
ونجد في هذا الكلام إثباتًا لوحدانيته سبحانه وتعالى، وأنه وحده المعبود بحق، وأنه لا إله إلا هو، وكان طريق الإثبات هو بيان خلقه وتنوعه، أنَّه وحده الخالق لكل شيء، وإذا كان الله تعالى هو الخالق وحده فهو الإله وحده، وكان التعريف بالله تعالى هو السبيل لإثبات الربوبية له سبحانه، وقد عرّف سبحانه وتعالى - بصفاته واثره سبحانه في الوجود؛ لأن الله تعالى لا يعرف إلّا بصفاته وآثاره في الخلق والتكوين؛ لأن معرفة حقيقة ذاته سبحانه وتعالى - غير ممكنة في هذه الدنيا، وأن الذي نعرفه أنه سبحانه وتعالى - منزَّه عن مشابهة الحوادث، فليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
ومما يدل على عظمة الخالق واستحقاقه للعبودية، وقدرته على البعث والنشور، التعريف بالمخلوق، وخصوصًا الإنسان، ومن ذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ، وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} [المؤمنون: 12 - 17].
ومن هذا نرى أنَّ التعريف بالإنسان من خلقه ابتداء دليل على بعثه انتهاء، ألم تر أنَّ الله سبحانه وتعالى - ذكر أنه خلقه علقة ومن العلقة مضغة ومن المضغة عظامًا ثم كساها لحمًا، ثم أماتها، ومن الطبيعي أن يكون قادرًا على الإحياء؛ لأن الإنشاء على غير الله أصعب من الإعادة، ولا صعوبة على الله تعالى في إنشاء ولا إعادة.
ومن تعريف بعض المحرمات يستبين تحريمها، والأمر القاطع بالتحريم، ومن ذلك قوله تعالى في تحريم الخمر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [المائدة: 90 - 92].
ونرى من هذا أنَّ التحريم الثابت بالنصِّ ذكر أوصاف الخمر وبيان ذاتها وما يترتب عليها؛ لمعرفة حكمة تحريمها، فذكر تعريفها بالحدِّ والرسم، أما التعريف بالحد فبيان ذاتها بأنها مع أخواتها من الميسر، والذبح على النصب، هو التعريف بالحد، وهو ذكر الذات، بذكر جنسها وفصلها، وأما ذكر هذا التعريف بالرسم، فهو ذكر ما يترتب على الشرب من وقوع العداوة والبغضاء والصد عن الصلاة وعن ذكر الله تعالى، فهي لهو لتزجية الفراغ بما فيها الصد عن ذكر الله وعن الصلاة، والأنغمار في اللهو الفاسد.

.2 - الاستدلال بالتجزئة:

144 - إن تذكر أجزاء الموضوع وبتتبعها يكون إثبات الدعوى، ومن ذلك أن المقرر الثابت بالبديهة الذي لا مجال للريب فيه الحكم بأن الأثر يدل على المؤثر، وأن الكون يدل على خالقه، وأنَّ القوى البشرية والعقول المستقيمة تقر بأن الخالق لهذا الكون صغيره وكبيرة قوة واحدة، وهي قوة الله سبحانه وتعالى.
وقد كان القرآن يذكر ذلك في آياته الحكيمة أحيانًا مجزءًا وأحيانًا غير مجزء، ومن الاستدلال بالتجربة قوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ، أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ، أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ، أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ، أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [النمل: 59 - 64].
ونرى من هذا كيف كانت التجزئة في مادة الاستدلال، وإن لم تكن الأجزاء كلها مستوفاة، وإنه من منهاج الاستدلال يتبيِّن أن لك جزء يصلح وحده دليلًا على أن الله وحده هو المنشئ للكون، والمدبِّر له، والقائم على كل شيء، ولذلك قرن السياق في كل جزء نفى أن يكون إله غير الله معه سبحانه وتعالى عما يشكرون.
ومن التجزئة أيضًا في الاستدلال قوله تعالى: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ، أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ، وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ، وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ، وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ، وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 29 - 35].
ونجد هنا في هذه الآية الكريمة تجزئة في الاستدلال بحيث يعتبر كل جزء دليلًا قائمًا بذاته، ومن مجموعه دليل كليّ على أنَّ كل صغير أو كبير من خلق الله تعالى، وأنها دليل على وجوده سبحانه وتعالى.

.3 - التعميم ثم التخصيص:

145 - التعميم أن تذكر قضية عامة، وتؤدّي إلى إثبات الدعوى بإجمالها، ثم يتعرَّض المستدل إلى جزئيات القضية، فيبرهن على أنَّ كل جزء منها يؤدي إلى إثبات الدعوى المطلوب إثباتها، أو أنها في مجموعها تؤدي إلى إثبات الدعوى.
ومما سبق ذكره يتبين صدق الدعاوي العامة التي هي صلب الدين وهي التوحيد، وأنه تجب إطاعة الرسول، وأنه لا خضوع إلا لله سبحانه، ومن ذلك قوله تعالى في المجاوبة بين موسى وفرعون: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى، قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى، قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى، قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى، الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى، كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى، مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 49 - 55].
ونرى من هذه القضية العامَّة الكاملة التي تذكر بجوار الله سبحانه وتعالى، وهي التي بها يعرف الله سبحانه وتعالى - الذي خلق كل شيء فأحسن خلقه وهو الهادي، فقال سبحانه كلمة جامعة كاشفة لمعنى الربوبية، ومع الربوبية العبادة، وكمال الألوهية، فقال الله تعالى على لسان موسى: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}، فهو سبحانه وتعالى - مانح كل شيء في هذا الكون الوجود، وهو مانح الهداية لمن اهتدى.
ثم أخذ القرآن الكريم بعد هذا التعميم الجامع بين جزئيات داخلة في هذا، وذكر من بعد هذه الجزئيات ما ينبه فرعون وأهل مصر وهم أهل زرع وضرع وختم النص الكريم بما يناسبهم، وهو نعمة للجميع: {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى}.

.4 - العلة والمعلول:

146 - أساس الاستدلال الربط بين القضايا التي تصوّر أجزاء الحقائق في هذا الوجود، بأن يكون وجود بعض الأشياء علة لوجود شيء آخر، وبمقدار قوة الارتباط تكون قوة الاستدلال، وذلك بأن يكون أحدهما علة للآخر، وإذا وجدت العلة كان المعلول ثمرة لوجودها، وهما متلازمان من الناحية العقلية، أو على حسب مجرى الأمور، وإذا ذكر المعلول كان كاشفًا لعلته؛ لأن ذكر النتائج مع إحدى المقدمتين لدليل يدل على المقدمة الثانية، ولأن المقدمات تطوى فيها، فإذا ذكر تحريم الخمر، وحاول العقل أن يتعرّف سبب التحريم يستطيع تكشفه من أوصاف الخمر، فإذا عرف الوصف المناسب للتحريم استيقن أنه السبب، وهو يكون وصفًا لا يشاركها فيه غيره من المباحات، وفي القرآن كثير، يكون فيه التعليل جزءًا من الدليل الذي يسوقه القرآن الكريم بتنزيل من العزيز الحكيم، ولنتل آية إباحة القتال، فإن فيها السبب الذي يبرره، والدليل الذي يوجبه، اتل قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ، وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ، فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة: 190 - 193].
وإننا نجد في سياق هذا النص القرآني الكريم أنَّ السبب الذي برّر أمر الله تعالى بالقتال أمران: أحدهما الاعتداء، وثانيهما فتنة المؤمنين في دينهم، فإذا زال الأمران لا يكون ثمَّة مبرر للقتال، ثم هذا الاعتداء، وتلك الفتنة دليل الوجوب، وكذلك نجد الأمر في الإذن بالقتال؛ إذ كان دليله هو الاعتداء، ولذلك قال الله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 39: 41].
ونرى في هذه الآيات الكريمة أنَّ العلة الموجبة هي الاعتداء وإخراج المؤمنين مفتونين في أنفسهم وأموالهم، ثم قامت المعلولات الغائبة المترتبة على السكوت، وعدم دفع المعتدين أن يعمّ الفساد ويسود الشرّ، فلولا هذا الدفاع لفسدت الأرض، ولهدمت المعابد، ولم تقم الشعائر، فاتخذ من هذه النتائج المترتبة على ترك المشركين يعيثون مبررة لمقاومتهم، وموجبة لحربهم، فكان هذا من قبيل الاستدلال بالنتائج وهي الغايات الواقعية دليلًا على الوجوب، وإن هذه الآيات الكريمات صور سامية لما سنَّه الإسلام من سنة تتفق مع الطبيعة الإنسانية، وهي إزالة الشر بالعقاب الشديد ومقاومته؛ لأن الفضيلة في الإسلام ليست سلبية، ولكنها إيجابية. بيِّنَ سبحانه على السبيل الإيجابي لردِّ الرذيلة ودفع شرها ومقاومته، فكان الاعتداء على الفضيلة سببًا موجبًا للقتال، والقتال في سبيلها جهاد مثوب.